1 - سياق النشر ومكانته في التاريخ الأدبي والسياسي
تندرج المقالات السياسية لعبد الكريم غلاب ضمن مسار تاريخي ونضالي يمتدّ لأكثر من نصف قرن من الحياة السياسية المغربية. فمنذ أربعينيات القرن الماضي، تميّز بصفته مفكّراً عضوياً في حزب الاستقلال، تَكوَّن في الأوساط الإصلاحية بالمشرق، وتغذّى من الدينامية الوطنية المغربية.
نُشرت هذه النصوص بين خمسينيات القرن العشرين وعام ٢٠١٠، فرافقت التحوّلات الكبرى في تاريخ المغرب المعاصر: الاستقلال، بناء الدولة الحديثة، النقاشات الدستورية المتعاقبة، الإصلاح التربوي واللغوي، ثم الانفتاح الديمقراطي والتحوّلات في القرن الحادي والعشرين.
وتقع هذه المقالات عند تقاطع الفكر السياسي والالتزام الصحفي والتأمل الدستوري، حيث تتحوّل الكتابة الأدبية إلى أداة للتربية المدنية والتعبئة الفكرية.
وهكذا يظهر عبد الكريم غلاب ليس فقط شاهداً حيّاً على المغرب السياسي، بل فاعلاً ومُفكّراً في صياغة الفكر الوطني الحديث.
2 - البنية والمنهج الحِجاجي
تقوم بنية مقالاته على منطق خطابي واضح وتعليمي، غالباً ما يُبنى على ثلاث مراحل:
1. تشخيص المشكلة — أزمة سياسية، انحراف مؤسّساتي أو انحراف أيديولوجي.
2. التحليل النقدي — مقاربة تاريخية وأخلاقية.
3. اقتراح الإصلاح — تقديم بديل يستند إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوفاء للقيم الوطنية.
الكتابة صارمة لكنها ليست تجريدية. يعتمد عبد الكريم غلاب على منهج استقرائي، ينطلق من الواقع (وقائع، أحداث، أمثلة من المغرب أو من العالم العربي) ليستخلص منها مبادئ عامة.
تسود الخطابَ بلاغةُ الإقناع: جملٌ محكمة البنية، تكرارات أنفورية، ومفردات مدنية قوية مثل «المسؤولية»، «الشعب»، «المؤسسات»، «الأصالة»، «الإصلاح» وغيرها.
وكل نصّ هو في آنٍ واحد تحليلٌ ودعوة إلى الوعي.
3 - الرموز والشخصيات السياسية
رغم خلوّ المقالات من شخصيات متخيّلة، فإنّ عبد الكريم غلاب يُبرز فيها شخصيات رمزية، منها:
-
المواطن المغربي، وريث التقاليد وفاعل التغيير في آنٍ واحد؛
-
المسؤول السياسي، المدعوّ دوماً إلى إعادة تعريف رسالته الأخلاقية؛
-
الشعب، كيان جماعي وأخلاقي في صميم الشرعية السياسية؛
-
ثم شخصيات تاريخية مثل محمد الخامس، علال الفاسي، ومحمد بوستة، بوصفهم نماذج للوطنية والحكمة والإنسانية السياسية.
ومن خلال هذه النماذج، يبني عبد الكريم غلاب معرضا أخلاقيا للسياسة، حيث تغدو المسؤولية والثبات والإخلاص للصالح العام فضائلَ أساسية للسلطة.
وتغدو أعماله السياسية بمثابة أخلاقيات للحُكم، يُقاس فيها رجل الدولة بضميره.
4 - الموضوعات الرئيسة
تتكرّر في هذه المقالات موضوعات تُشكّل بنية فكرية متماسكة:
-
الديمقراطية باعتبارها أفقاً أخلاقياً وتاريخياً للمغرب؛
-
دولة القانون والمؤسسات، في نشأتها وتعطّلاتها وتقدّمها؛
-
الإصلاح — الدستوري، التربوي، اللغوي — شرطاً للتقدّم؛
-
الهوية الوطنية: تفاعل بين الأصالة (*التراث*) والحداثة (*الحداثة*)؛
-
الحوار السياسي: تجاوز التطرّف الأيديولوجي وتحقيق التوازن بين التقليد والعقل؛
-
دور الثقافة السياسية في نضج التجربة الديمقراطية؛
-
العدالة الاجتماعية ومكافحة الفوارق بين الريف والمدينة.
ويكوّن هذا المجموع رؤية وطنية مستنيرة، تتجذّر فيها الحرية السياسية في المسؤولية الأخلاقية والثقافية.
5 - الأسلوب والجمالية الأدبية
يحافظ عبد الكريم غلاب، حتى في مقالاته السياسية، على فصاحة الأديب الكلاسيكي.
فاللغة العربية عنده كثيفة الإيقاع وعميقة الجذور القرآنية، تتخللها إشارات نصّية وتلميحات إلى التراث العربي الإسلامي.
ومع ذلك يزاوج هذا الأسلوب بوضوح صحفي نابع من خبرته الطويلة في الصحافة.
أما الفرنسية، في ترجماته أو تكييفاته، فتبقى متّسمة بالرصانة والوضوح، كتابةٌ متوازنة بلا مبالغة، دافعة دوماً بقناعة أخلاقية.
وبذلك فإن الجمالية الغلابية في السياسة ليست بلاغةً لذاتها، بل توظيفٌ للّغة في خدمة الوعي المدني.
6 - التلقّي النقدي والأثر الفكري
حظيت المقالات السياسية لعبد الكريم غلاب بتقدير واسع — سياسي وأكاديمي وصحفي.
وقد استُشهد بها في أبحاث العلوم السياسية المغربية، خصوصاً تلك المعنية بنشأة النظام البرلماني، كما وردت في دراسات عربية حول الإصلاحية الوطنية.
وفي المغرب، تمثّل هذه المقالات ذاكرة فكرية للحركة الاستقلالية ومرجعاً لفهم تطوّر الحياة الدستورية في البلاد.
وعلى الصعيد العربي، يَبرز عبد الكريم غلاب ضمن مفكّري الإصلاح السياسي في مرحلة ما بعد الاستعمار، إلى جانب مفكرين مصريين وسوريين ومغاربيين.
إن صوته، الهادئ الواثق، يبقى صوت المثقّف الوسيط — لا عقائديّاً ولا تكنوقراطياً، بل خادماً للحوار بين الدولة والمجتمع.










